هل يمكن للأفراد المطالبة بالتعويض عن أخطاء القضاة ؟
هل يمكن للأفراد المطالبة بالتعويض عن أخطاء القضاة ؟ و هل الدولة مسؤولة عن تعويض أخطاء السلطة القضائية ؟
ما أنعم الله على بلد نعمة أثمن قيمة ولا أغلى جوهرة ولا أحسن أثراً من نعمة قضاء عادل، و القضاة هم محراب العدالة وكلمة الحق ، ونظرا لأهمية القضاء في رد المظالم وحماية الحقوق أولى المشرع عناية بالغة بتنظيم الضمانات القضائية،
ومن صور هذه الضمانات مبدأ استقلال القضاء ، وعدم قابلية القضاة للعزل أو النقل، وتخصيص مرتبات مجزية تهيئ لهم المستوى اللائق من الحياة بما يعينهم على النهوض برسالتهم المقدسة. وإذا كان من المفترض نزاهة القضاء ، وسعي العاملين في حقله إلى الوصول للحقيقة في كل ما يعرض عليهم من منازعات، إلا أن القضاة ليسوا إلا آدميين قد يحالفهم الصواب حيناً وقد يقعوا في الخطأ في تفسير القوانين أو الفصل في النزاعات ، وبالطبع فإن ما قرره المشرع من ضمانات عدة واهتمام بالغ في تولي هذا المنصب الهام ، قد يؤدي إلى قلة الأخطاء ولكنه لا يمكن أن ينفي وجودها ، بل وقد تؤدي هذه الأخطاء في أحيان كثيرة إلى الإضرار بالمتقاضين دون وجه، الأمر الذي يتطلب تعويضهم عما لحقهم من ضرر ، فقد يقضي القاضي المدني لغير المالك بالملكية ويصبح الحكم حائزاً لحجية الشيء المقضي به لتأييده من المحكمة الأعلى أو لفوات مواعيد الطعن ، فيضيع على المالك الحقيقي ملكه , وقد يقرر القاضي الجنائي إدانة متهم بالحكم ويحكم عليه بعقوبة قد تصل في مداها الأقصى إلى الإعدام، ثم يتضح فيما بعد أن المحكوم عليه بريء مما نسب عليه وان المجرم الحقيقي شخص آخر.
و اذا استعرضنا بشكل موجز مراحل تطور الدولة نجد ان الدولة كانت سابقا غير مسؤولة عن الأخطاء التي تنشا عن تصرفاتها في اي ميدان من الميادين ولكن مع تطور مفهوم الدولة بدأت الدولة تقرر التعويض عما ينشا من أضرار عن الخطاء المرتكبة من قبلها وقد نص الدستور الدائم لعام 1973 صراحة على استقلال السلطة القضائية فجاء في المادة 131 منه على انه (السلطة القضائية مستقلة ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال يعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى (
ونصت المادة 133 منه على ما يلي :
1- ان القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون.
2- شرف القضاة وضميرهم و تجردهم ضمان لحقوق الناس و حرياتهم
و بالرغم من الضمانات التي تضفيها النصوص الدستورية و التشريعية على القضاء فان هذا لا يحول دون امكانية وقوعه في اخطاء تلحق ضررا بالافراد.
فهل يمكن مطالبة الدولة بالتعويض عن هذا الضرر؟
يبدو ان القاعدة المقررة في هذا المجال هي عدم مسؤولية الدولة عن اعمال السلطة القضائية الا اذا نص المشرع صراحة على خلاف ذلك ويدخل في مفهوم الاعمال القضائية كل من الاحكام القضائية والاعمال الولائية والتحضيرية والاعمال الصادرة عن النيابة العامة فيما يتعلق بالاتهام كما هو الحال في القبض والتفتيش و الحبس الاحتياطي و ذلك بخلاف اعمال النيابة الاخرى ذات الطابع الاداري كالتفتيش عن السجون فان الدولة تسال عنها و تعتبر من اعمال السلطة القضائية اعمال الضابطة العدلية الهادفة الى الكشف عن المجرمين وتعقب
مبررات قاعدة عدم مسؤولية الدولة عن اعمال السلطة القضائية.
اولا: استقلال السلطة القضائية :
ومقتضى هذه الحجة ان الادارة كانت تسال عن الخطاء التي يرتكبها الموظفون اثناء قيامهم بالاعباء الموكلة اليهم فهذا ناجم عما
تتمتع به الدولة ازائهم من سلطة الرقابة و التوجيه اما القضاة فهم مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون(المادة 133 من الدستور الدائم)
لذلك لا تسال السلطة التنفيذية عن اعمالهم الخاطئة
ثانيا: ذهب بعض الفقهاء الى ان تقرير المسؤولية على اعمال القضاء سيؤدي الى عرقلة سير القضاء على الوجه الاكمل لما سينجم عنه من خوف و تردد القاضي في اصدار الاحكام القضائية نتيجة شعوره بالمسؤولية المحيطة به ولكن هذه الحجة تنصرف عند الكلام عن مسؤولية القاضي الشخصية حيث يتعرضون لدفع التعويض من مالهم الخاص .
ثالثا: حجية الاحكام وقوة الشيء المقضي به:
والواقع ان الاحكام القضائية بحاجة الى الاستقرار في مرحلة معينة لانه تصبح عنوان الحقيقة فاذا سمحنا للافراد بالمطالبة بالتعويض عن احكام استقرت
بحجة ان هذة الاحكام خاطئة فان ذلك يكون بمثابة اثارة للنزاع من جديد , وهذا يتعارض تماما وحجية الشيء المقضي به .
رابعا: حداثة قاعدة مسؤولية الدولة :
اذا كانت هذة القاعدة فيما مضى هي عدم مسؤولية الدولة نظرا لاندماج مفهوم الدولة بشخص الملك الحاكم ولما كان هذا الاخير معصوم عن الخطا فقد كانت
الدولة ايضا لا تخطىء ولعل تطور مفهوم مسؤولية الدولة عن تصرفاتها الخاطئة سيؤدي الى ترتيب مسؤوليتها عن الاخطاء القضائية .
الاستثناءات من قاعدة عدم مسؤولية الدولة عن اعمالها القضائية:
القاعدة المقررة في هذا المجال هي عدم مسؤولية الدولة عن اعمال السلطة القضائية الا اذا نص المشرع صراحة على خلاف ذلك .
و من الامثلة على مسؤولية الدولة عن اخطاء القضاء:
1- مسؤولية الدولة في حال مخاصمة رجال القضاء:
قد ينجم عن خطأ القاضي و مخالفته لاحكام القانون ضرر باحد المتخاصمين فللمتضرر الحق بمطالبة القاضي بالتعويض ومن الجدير بالذكر أن مخاصمة القاضي لا تجوز الا في حدود واجراءات محددة حفاظا على كرامته و وقاية له من الدعاوى الكيدية التي تناله و هذا ما نصت عليه المادة 486اصول محاكمات مدنية .
مادة 486 :
تقبل مخاصمة القضاة وممثلي النيابة العامة في الأحوال الآتية.
آ ـ إذا وقع من القاضي أو ممثل النيابة العامة في عملهما غش أو تدليس أو غدر أو خطأ مهني جسيم.
ب ـ إذا امتنع القاضي عن الاجابة على استدعاء قدم له أو على الفصل في قضية جاهزة للحكم.
ج ـ في الأحوال الأخرى التي يقضي فيها القانون بمسؤولية القاضي والحكم عليه بالتضمينات.
مادة 487
الدولة مسؤولة عما يحكم به من التضمينات على القاضي أو ممثل النيابة العامة بسبب هذه الأفعال ولها حق الرجوع عليه.
وقد نصت المادة 490 من الاصول الجزائية على المحكمة المختصة في النظر في دعاوى المخاصمة .
مادة 490
1 ـ ترى دعوى المخاصمة المرفوعة على قضاة محكمة النقض وممثلي النيابة العامة التمييزية أمام الهيئة العامة لمحكمة النقض.
2 ـ ترى دعوى المخاصمة المرفوعة على قضاة محكمة الاستئناف والنائب العام الاستئنافي أمام الغرفة المدنية لمحكمة النقض.
3 ـ ترى دعوى المخاصمة المرفوعة على سائر القضاة وممثلي النيابة الآخرين أمام محكمة استئناف المنطقة.
وفي حال الحكم على القاضي بالتعويض في دعوى المخاصمة كانت الدولة مسؤولة عما يحكم به من تضمينات وتعد مسؤولية الدولةهنا من قبيل مسؤولية المتبوع عن اعمال تابعه.
2-مسؤولية الدولة في حال براءة المحكوم عليه بحكم نهائي :
وقد حدد القانون السوري الحالات التي التي يجوز الطعن فيها باعادة المحاكمة ونصت عليهاالمادة 367 اصول جزائية على سبيل الحصر:
المادة 367
يجوز طلب اعادة المحاكمة في دعاوى الجناية والجنحة ايا كانت المحكمة التي حكمت بها والعقوبة التي قضت بها وذلك في الاحوال التالية:
أ - اذا حكم على شخص بجريمة القتل وقامت بعد ذلك ادلة كافية تثبت ان المدعى قتله هو حي.
ب- اذا حكم على شخص بجناية اوجنحة وحكم فيما بعد على شخص آخر بالجرم نفسه وكان الحكمان لايمكن التوفيق بينهما ويتنج عن ذلك مايؤيد براءة احد المحكوم عليهما.
ج- اذا حكم على شخص وبعد صدور الحكم قضي بالشهادة الكاذبة على من كان قد شهد عليه بالمحاكمة ولا تقبل شهادة هذا الشاهد في المحاكمة الجديدة .
د- اذا وقع او ظهر بعد الحكم حدث جديد او ابرزت مستندات كانت مجهولة حين المحاكمة وكان من شأن ذلك اثبات براءة المحكوم .
و هذا يبين أن مساءلة القضاء مدنياً لا يكون إلا طبقاً للقانون وحيث أنه لم يصدر إلى الوقت الراهن قانون فإنه لا يجوز المطالبة بالتعويض .
ويذهب رأي الفقه في أن تحقيق الاستقلال للقاضي وضمان حريته في الفصل في القضايا يتطلب ألا تتدخل محكمة في القضايا المعروضة على محكمة أخرى والحكم على أخطائها بمسؤولياتها المدنية , إذ إن تقرير المسؤولية عن أعمال القضاء سيؤدي إلى أن يتدخل قاض في عمل لقاض آخر، مما يؤدي إلى المساس بحرية القاضي المطالب بالتعويض و إلى الحيلولة بينه وبين تأدية واجباته على الوجه الأكمل خوفاً من الحرج وشبح المسؤولية , الأمر الذي قد يترتب عنه تردد القاضي في الفصل في المنازعات مما يعرقل سير العدالة ويعود بالضرر على المجتمع، كما يتردد رجال النيابة في القبض على المجرمين مما يساعد على تفشي الإجرام. وبالطبع فإن هذه الحجة التي يسوقها بعض الفقهاء محل نقد شديد وتباين كبير .
ملاحظة:
القانون الفرنسي الصادر في عام 1895 الخاص باعادة التماس النظر يرتب على الدولة ضرورة دفع تعويض للشخص الذي قضي ببرائته نتيجة اعادة المحاكمة اما المشرع العربي لم يرتب على الحكم الصادر بالبراءة مسؤولية الدولة مدنيا عن تعويض المحكوم عليه مماا لحقه من جراء الحكم الصادر بالادانة.